مهرجان القدس للسينما العربية- نافذة على قضايا الأمة وكسر للعزلة

المؤلف: هاني بشر08.18.2025
مهرجان القدس للسينما العربية- نافذة على قضايا الأمة وكسر للعزلة

يعيش "عدنان" حالة من الاغتراب المرير داخل وطنه المحتل، الجولان السوري، ولم يستطع تحمل مرارة الغربة في روسيا، فعاد خائباً دون تحقيق حلم والده بدراسة الطب. بعد عودته، وجد نفسه محاصراً بسلسلة من المشاكل الشخصية والعائلية المتفاقمة، تماماً كقريته التي يطوقها صوت الرصاص من كل الجهات، وهو عاجز عن إيقاف أي من الأمرين. جو من الرتابة والترقب الحذر يسيطر على قصة عدنان وعائلته، ولا يكسر هذا الجمود إلا المشاهد الشاعرية والجمالية الآسرة التي تحول منازل القرية وطرقاتها المتعرجة إلى لوحات فنية بديعة في فيلم "الغريب"، من تأليف وإخراج المخرج المبدع أمير فخر الدين، وهو أحد الأفلام المميزة التي عُرضت في مهرجان القدس للسينما العربية في دورته الثانية، الذي انطلق قبل فترة وجيزة في مدينة القدس بشعار "السينما من أجل القدس".

تألقت فلسطين بترشيح فيلم "الغريب" بشكل رسمي في مسابقة الأوسكار المرموقة لهذا العام في دورتها الرابعة والتسعين. كما نال الفيلم جائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي العريق، ما يعكس القيمة الفنية والرسالة الإنسانية التي يحملها الفيلم.

الفيلم هو ثمرة إنتاج مشترك بين سوريا وفلسطين وألمانيا، وشارك فيه نخبة من الممثلين المتميزين، مثل النجمين الفلسطينيين القديرين أشرف برهوم ومحمد بكري. أتيحت الفرصة لسكان مدينة القدس لمشاهدة هذا الفيلم وغيره من الأعمال السينمائية مجاناً خلال فعاليات مهرجان القدس للفيلم العربي، الذي تزامن مع الفاجعة الأليمة لاستشهاد الزميلة العزيزة شيرين أبو عاقلة، الصحفية اللامعة، وقد ألقت هذه الحادثة بظلالها الحزينة على أجواء المهرجان، الذي أعلن تسمية جائزته المخصصة للفيلم الوثائقي باسمها تخليداً لذكراها العطرة في الدورة الحالية والدورات القادمة.

قد لا يبدو موضوع فيلم الافتتاح التونسي للمهرجان، "قدحة"، جديداً تماماً، حيث يتناول قضية الهجرة غير الشرعية وتجارة الأعضاء، ولكن ما يميزه هو عرضه لهذه القضايا الحساسة من زاوية فريدة، هي وجهة نظر طفل صغير يبلغ من العمر 12 عاماً فقط، يحاول استكشاف العالم وفهم هذه القضايا المعقدة من منظوره الخاص. يعتبر هذا الفيلم العمل الروائي الأول للمخرج التونسي الواعد أنيس الأسود.

تدور أحداث معظم أفلام المهرجان، في مختلف فئاتها من روائية ووثائقية وقصيرة، حول قضايا اللاجئين والاغتراب والهجرة في دول عربية متعددة، وهي قضايا بالغة الأهمية تلامس مستويات المعاناة المختلفة التي يواجهها الفلسطينيون. الفيلم المصري "أبو صدام" يسلط الضوء على عودة سائق شاحنة إلى عمله بعد انقطاع دام سنوات، ويعرض الصعوبات والتحديات التي تواجهه أثناء عمله على طرق الساحل الشمالي، وهو من إخراج المخرجة المتميزة نادين خان وبطولة الفنان القدير محمد ممدوح. أما فيلم "أوروبا" للمخرج العراقي حيدر رشيد، فيتعرض لقضية الهجرة غير النظامية من خلال رحلة شاب عراقي يائس نحو أوروبا، سيراً على الأقدام من تركيا باتجاه بلغاريا.

أعتقد أنه لو تم تصنيف هذه الأفلام في المهرجان وفقاً لموضوعاتها، لكان ذلك أكثر فعالية وأفضل، أو على الأقل تحديد عناوين ثابتة للجوائز، بحيث تتنافس الأفلام التي تتناول الموضوع نفسه في فئات محددة، بدلاً من الشعار العام "السينما العربية".

يعتبر المهرجان خطوة جريئة ومتأخرة في الوقت نفسه، تهدف إلى كسر الحصار الثقافي الممنهج الذي يحاول الاحتلال فرضه على القدس، وتقديم نوع مختلف من السينما العربية يربط المقدسيين وأهل فلسطين بعمقهم العربي سينمائياً وفنياً، وفي الوقت نفسه يفتح آفاقاً جديدة أمام المخرجين العرب للاطلاع على أوضاع القدس وأهلها ومعاناتهم.

لوحظ غياب أية أفلام تتناول قضية القدس بشكل مباشر أو غير مباشر عن جدول المهرجان. يبدو أن هذا الأمر فرضته ظروف سوق الإنتاج الراهنة، مع ذلك فإن الموضوع نفسه كان حاضراً بقوة في جلسة نقاشية بعنوان "أفلام تحكي القدس"، وهو أمر إيجابي يشير إلى النقص الحاد في الإنتاج السينمائي الذي يتناول قضية القدس بأبعادها الإنسانية المتنوعة، خاصةً في ظل التطورات والأحداث المتلاحقة على أرض الواقع، والقصص الإنسانية التي قد تفوق خيال السينمائيين أنفسهم.

كسر العزلة الثقافية

من بين فعاليات المهرجان اللافتة، كانت ورشة السيناريو هي الأكثر جاذبية، وذلك لعدة أسباب: أولاً، لأنها اعتمدت عنوان "القدس عام 2050" لتحفيز خيال المشاركين على كتابة سيناريوهات لأعمال تدور أحداثها في المستقبل. ثانياً، لأنها استخدمت تقنية الواقع المعزز المبتكرة، التي تتيح تغيير الصور الواقعية بإضافة عناصر خارجية، مما يوسع آفاق خيال المشاركين ويتيح لهم استكشاف مساحات أبعد من حيث الموضوع وتقنيات التصوير والإخراج. ثالثاً، لأن هذه الورشة تقام عبر الإنترنت وهي مخصصة بالأساس للمشاركين الفلسطينيين، ولكنها استقبلت عدداً كبيراً من المشاركين من تونس ومصر والجزائر وغيرها من الدول، وقد استوعبت إدارة المهرجان جميع هذه الأعداد، مما يعني توفير فرصة للتثقيف والتعليم السينمائي عن بُعد، تنطلق من القدس نحو البلدان العربية، بما يحمله ذلك من معانٍ سياسية وإنسانية نبيلة.

المهرجان – في جوهره – يعتبر خطوة متأخرة، لكنها ضرورية، نحو كسر الطوق الثقافي الخانق الذي يحاول الاحتلال فرضه على القدس، وتقديم نوع فريد من السينما العربية يربط المقدسيين وأهل فلسطين بمحيطهم العربي سينمائياً وفنياً، ويفتح أعين المخرجين العرب على أوضاع القدس وأهلها. لم تشهد القدس أية مهرجانات متخصصة في السينما العربية خلال السنوات الماضية، مما أوجد فجوة فنية وإبداعية كبيرة في هذا المجال.

من الإيجابيات التي يحسبها للمهرجان الوليد أنه لم يحصر نفسه في تناول القضايا الفلسطينية فقط، بل امتدت موضوعات الأفلام لتشمل قضايا اجتماعية واقتصادية وإنسانية من مختلف الدول العربية، مما يجعله منصة شاملة للتعبير عن هموم وتطلعات العالم العربي.

إن الاهتمام المقدسي بالسينما الفلسطينية والعربية ليس وليد اللحظة، بل هو مجرد إزالة للغبار عن تاريخ المدينة الثقافي العريق ودورها الريادي في الثقافة العربية والإسلامية؛ ففي القدس كانت هناك أربع دور للسينما قبل الاحتلال الإسرائيلي، وكان هناك تواصل إنساني وثقافي نشط مع مختلف دول العالم، وخاصة الدول العربية. لذلك، فإن هذه الخطوة تعيد إحياء التراث السينمائي في القدس وتبدأ في بلورة دور للمدينة المقدسة في استعادة أمجادها لتصبح مركز إشعاع ثقافي على العالم العربي، وذلك عبر وصل عرى التواصل الإنساني والفني التي انقطعت بسبب الاحتلال وما أحدثه من حواجز جغرافية وبشرية بين الفلسطينيين – وخاصة المقدسيين – ومحيطهم العربي. لذلك، يعد هذا المهرجان خطوة مهمة نحو مد جسور التواصل الفني والثقافي، أيضاً عن طريق استضافة مخرجي الأفلام المعروضة عبر الإنترنت ومشاركتهم للجمهور أثناء عرض الأفلام في المهرجان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة